إنّ الأصل في الأمور الإختيار. و إنّ
الإختيار و الحقّ فيه هو لبّ تكريم الإنسان وربّما كان سببه الأجلّ. و رغم أنّ ذلك
ممّا تتّفق فيه،ظاهريّا، جلّ التّنظيمات المؤثّرة سياسيّا واجتماعيّا بتونس، إلّا
أن النّقاش عادة ما يحيد عن هذا المبدأ. يُحاد عن الحقّ في الإختيار كمسلّم به و
فلسفة فرديّة و جماعيّة، بمسميّات إسلاميّة أحيانا كقولهم "كيف تحكّمون
النّاس في شرع اللّه" و هو الذّي يكاد يكون كلاما خارجيّا. كما ينتهك الحقّ
الطبيعيّ في الإختيار من طرف نخب تدّعي التقدميّة و تكاد تحتكر الدّيمقراطيّة
بقولهم "الشّريعة خطّ أحمر" و هو في الغالب كلام "أيتام
فرنسا".
و إنّ هذه الخطوط الحمر التّي يعتصم
إليها الفريقان لتحدّ من أفق النّقاش و تحصره. و نرى ذلك بجلاء في كافّة النّقاشات
الكبرى التّى تتحوّل عادة إلى مفاوضات، يكون الهدف منها تحقيق أكبر قدر ممكن "المكاسب"
الأديودغمائيّة[1]:
فتارة نسمع أحدهم "يتنازل" عن تطبيق الشرّيعة و يصّر ذلك على أنّه هديّة
طمأنة فيتجاوزه الآخر بأنّها، أي
الشّريعة، أصلا منافية للحياة الحديثة التّونسيّة . إذا فطرح حدود مسبقة
للنّقاش قبل بدئه يؤدّي إلى إنحصار البحث حول الفائدة المرجوّة من مقترح أو قانون
أو نظام ما و تجاهل طرح حجاجيّ هادئ للآراء كلّها و التوجّه نحو العنتريّات
الشعبويّة و تكرار الشّعارات الفارغة.
حول الموضوع المنتاول، أي إصلاح
القضاء، يجب علينا إذا التخلّص من كلّ الحدود المسبقة . ماذا يقيّدنا بالنّهج
الإصلاحيّ الإنكفائيّ للقطاع؟ في الحقيقة، ماذا يقيّدنا بقطاع القضاء المدنيّ
أصلا؟ لا شيء. خلقنا طلقاء فلنكن طلقاء. في هذا البحث سأحاول تقديم طرح تحرّري
للمسألة داعيا إلى إنشاء نظام قضائيّ حسب قواعد الشّريعة إلى جانب القضاء المدنيّ.
و خلافا لتوقّعات القارئ (ربّما) إستسقيت فكرتي و سأستأنس في شرحها بالمثال
القضائيّ لبريطانيا.
فحسب القانون التحكيميّ للمملكة
المتّحدة لسنة 1996[2]
و باب المبدأ العامّ به، الذّي يقول: "الطّرفان لهما الحريّة في الإتّفاق حول
الطّريقة التّي يسوّى بها نزاعهما: طالما تمّ إتّخاذ الإحتياطات اللّازمة لضمان
المصلحة العامّة". في بريطانيا، و تحت طائلة هذا التّشريع تنضوي محاكم أهليّة
منها اليهوديّة و تلك الحاكمة حسب الشّريعة الإسلاميّة. و تكتسي أحكامها بطابع
الإلزام القانونيّ لدى المحاكم البريطانيّة المدنيّة في حال توفّر الشّروط
المتظمّنة بالتّشريع الآنف الذّكر.
و يقول أغلب المترافعين لدى المحاكم
الشّرعيّة البريطانيّة أنّ الإجراءات كانت سريعة و سلسة مقارنة بالقضاء العاديّ و
أنّ التّكاليف كانت ضئيلة كذلك[3]. و
تأييدا لهذا الرّأي يأكّد النموّ الكبير للقضايا التّي تتعهّد بها محاكم شرعيّة
بريطانيّة إقبالا و طلبا متزايدا على هذه الخدمة و ذلك حسب بحث لسفيتاس[4] (هيأة
دراسة المجتمع المدني). رغم تخوّف من نقص في الشّفافيّة، أكّدت
الدّاسة أنّ عدد المحاكم الشّرعيّة البريطانيّة تزايد إلى أن وصل إلى 85 محكمة إلى
حدود سنة 2009 فقط.
و كما أنّ العلم يبحث عنه "حتّى
في الصّين" فلا غرو من أن نستفيد من تجربة القضاء الإسلاميّ من صرح
الدّيمقراطيّة الغربيّة، لاسيّما المملكة المتّحدة. إذا كيف لنا أن نستفيد من هذا
النّوع من التّنظيم في إطار واقعنا التّونسيّ؟
إضافة إلى الحقّ البديهيّ في الإختيار
فإنّ هكذا نظاما سيساهم لا محالة في إصلاح سلك القضاء عموما. إنّه التّنافس،
فالفساد المستشري في جسم قضائنا سيزيد من جاذبيّة البديل و يفرض على القضاء
المدنيّ و حتّى سلطة الإشراف عليه أن يختار بين الإصلاح الشّامل و الجذريّ أو
الإندثار و الذّوبان و رغم أنّ هذا توقّع مستقبليّ إلّا أنّني أتصوّر أنّ هكذا
قضاءا سيستأثر بجزء مهمّ و معبّر من القضايا فور تطبيقه.
أمّا الأثر الغير مباشر لإنشاء نظام قضائيّ
شرعيّ تونسيّ مواز فسيكون المساهمة في ترسيخ السّلم الأهليّ: كلّ الدّاعين إلى
"تطبيق الشّريعة" سيمكن لهم الآن أن يدعوا النّاس لخيار من ضمن خيارين و
لا إلى مشروع معاد للدّولة في أصلها. إذا فالدّعوة التّي كانت بالأمس "مشروعا
إنقلابيّا" يمكن أن يسوّغ البعض لتحقيقه الأساليب العنيفة سيتّم إستيعابه و
التّطبيع معه في إطار المحاكم الشرعيّة الموازية. إنّ فتح باب المصالحة و التشدّق
بها كمنهج أحيانا يجب أن ينسحب كذلك على أرض الواقع و يتّجه نحو من يوصمون
بالسلفيّة و آحيانا بالتشدّد. فالإنفتاح على من هو مثلك إنغلاق في حقيقته و يجب
على المنفتح أن يتّجه نحو فسح الخيار و تمكين الحريّة لخصومه قبل أصدقائه إن كان
يعتبرهم خصومه. و ليكن قدوتنا في ذلك البيشوب الدّكتور "روان ويليامز"
الدّاعم للمحاكم الإسلاميّة و هو رجل دين مسيحيّ[5].
و حسبنا في بداية التّجربة أن يتمكّن
هذا القضاء الموازي من النّظر في أنواع محدّدة من القضايا كاطّلاق و الأسرة و أن
يكون، كما تقول محكمة القضاء الإسلامي البريطانيّة، مبنيّا على إقتناع كلّ من
المدّعي و المدّعي عليه بأحكامه و موافقتهما عليها مسبقا إذا ما قرّرا التّرافع
لدى محكمة شرعيّة[6].
إنّ التخوّف من هكذا إقتراح لا يمكن أن يحمل، في أغلب الحالات، إلّا على محمل
الخوف المرضيّ من كلّ ما هو إسلاميّ و محمل المنهج الإستئصاليّ.
إنّ هذه الدّعوة أوجّهها للتّونسيّين، متوّسلا
إيّاهم تغليب إرادة الإنفتاح و الإختيار و نبذ الفوبيات و الأمراض النّفسيّة التّي
زرعتها بنا ما تسمّى جورا بدولة الإستقلال. وندعوا اللّه أن يهدينا لما فيه إصلاح
لأمرنا.
5 comments:
inchallah "sonnaa al karar"fi beledi lisent ce genre d'essais et réagissent en conséquence mes encouragements persévère
فعلا موضوع يمثل جدلا خاصة لدى الشباب ذوي الإلتزام " الحديث " ....
فسّرنا والخوا مقصدق. ماذا عنك أنت؟ ما هو موقفك من إنشاء محاكم شرعيّة تتعهّد بقضايا الرّاغبين بالتّرافع لديها.
و كيف يقع إنشاء محاكم شرعية للراغبين بالترافع لديها ؟؟؟ أنجعل مؤسستين قضائيتين ؟؟ وضح يا فراس
نعم، العمليّة سهلة جدّا. هو فقط تقنين لحريّة إختيار الطّريقة التّي تحلّ بها النّزاعات. و المثال البريطاني الذّي إستأنست به مثال على التّعايش الممكن بين النّظامين القضائيّن. إنّ دولنا تحتوي على شرائح كبيرة تقتنع أكثر، لإعتبارات عقائديّة، بأحكام الشّريعة و يجب علينا تطويع النّظّم حتّى تستجيب لواقعنا لا أن نطّوع واقعنا حتّى يستجيب لقوانينا المستوردة (في حالة تونس من فرنسا) .د
Post a Comment