كثيرا ما ننسى، أو نتناسى، أنّ ما نعيشه اليوم رائع حقّا. تبارز و
تدافع يصل حتّى للتّنابز و العراك. الكلّ يتكلّم بحريّة و وزراء يستقيلون كلّ
أسبوع و جرائد و مواقع إخباريّة بالجملة تروّج الغثّ و السّمين ألسنتها مطلقة تنويرا
للشّعب أحيانا و بثّا للفرقة و الإشاعات أحيانا أخرى.
كلّ ذلك الإختلاف و تلك الألوان أمر رائع حقّا. و لكن لا يسعنا، و
جنود الردّة التجمّعيون يتربّصون بنا، أن نركن لتأمّل المشهد برومنسيّة، فليست كلّ
اللّوحة إبداعا و ليس كلّ إختلافاتها جمالا.
لا يغترّن غرور أو مغرّر به أنّي بصدد نصب مجانيق التّجريح بفريق
الحكم أو بفريق معارض. فذلك ما تدأب عليه الأبواق الإعلاميّة للقوى الرّجعيّة من
سخريّة و قدح غرضهما زلزلة هيبة الثّورة و مفرزاتها. بل إنّ ما سيتلو أريد له تناول
واقع أعمّ يحتوى كلتا الفريقين، الحاكم و المعارض: واقع الطّبقة السّياسيّة
التّونسيّة عموما. كما أنّي لن أكون عدميّا و هدّاما بقدحي في شأنها، فلا يمكننا
أن ننسى أنّ طبقتنا السّياسيّة أو فلنقل جلّها مرآة لنا كمجتمع و نتاج عضوّي
لحراكنا المجتمعيّ و الثّقافيّ.
تشهد السّاحة السّياسيّة التّونسيّة حوارا مستعرا حول الأصول كطبيعة
الدّولة و نوع الحكم فيها و تخترق الإختلافات التّحلفات الحزبيّة بما فيه ثلاثيّ
الحكم. كما يحمى النّقاش حول التّفاصيل والفروع من إنقطاع للكهرباء و حوادث هنا و
هناك يراد منها أحيانا التّشويش على الحوار في الأصول و تدعيم الضّبابيّة و
التّشكيك في المسار التّأسيسيّ برمّته. لكنّ الغائب الأكبر عن هذه النّقاشات التّي
يقبل الإعلام بنهم كبير على تغطيتها، هو التّجديد و المقترحات الخلّاقة و
الإستنباط و الثّوريّة عموما. فجلّ التّيارات السّياسيّة المتناحرة تستند على
أطروحات أيديولوجيّة كلاسيكيّة و تقليديّة موغلة في السّلفيّة بشقّيها اليمينيّ و
اليساريّ. و رحى الحديث لم تدر حول النّمط و الأطروحة السّياسيّة الجديدة التّي
تولّدها "الثّوريّة" التونسيّة.
فلنأخذ مثالين على هذه النمطيّة حركة النّهضة من فريق الحكم و حزب
العمّال (الشّيوعي) التّونسي من فريق المعارضة. فالنّهضة هي الوريث و القائم
بالفكر الإخوانيّ الإسلاميّ إلى حدّ بعيد بتونس. و هي في صلبها إجابة لمشاكل دولة
الإستقلال. تتوجّه خصوصا لعلاج التّغريب القسريّ و لها نفس إصلاحيّ سلميّ أكثر منه
ثوريّ. أمّا العمّال (الشّيوعيّ) فهو معتنق لفكر و فلسفة أوروبيّة المنشأ و مجيبة
على مشاكل معيّنة متعلّقة بإفرازات النّظام الرّأسماليّ (النظريّة لا تجيب حتّى
على مشاكل الرّأسماليّة الحديثة). و لا يتمتّع بأيّ مقوّمات ثورريّة حقيقة من قبيل
صغر حجمه و إنعدام تجذّره شعبيّا. بعد الثّورة، نجد أنّ كليهما لا يزال في صلبه
محافضا على قوالبه و معتقداته. و لم يكن للثّورة أن تغيّر ما بهما أو أن تطوّعهما.
فروح خطابيهما لا يتعلّق برسم خارطة جديدة على لوح أبيض،لوح الثّورة، فلا
التّونسيّون اليوم مجبرون على التّغريب و لا على إتّباع النّمط الرّأسمالي رأسا.
لكنّ و كما يقول المثل: من شبّ على شيئ، شاب عليه: فليس لنا أن نطلب من حزبين لم
يكن لهما يوما ما مشروع جديّ لقلب الحكم، أن يكون لهما بديل للنّظام.
لا أسوق كلامي هذا تجريحا
بهما، فهذا الواقع ليس مسؤوليّة طرف محدّد. بل هو نتاج لتظافر عوامل كبرى كتاريخ
تونس الحديث و طابع الشّعب التّونسيّ و طريقة تعامله مع مفرزات الثّورة و فوق هذا
و ذاك قصر فترة الثّورة و الهروب "السّهل" نسبيّا للمخلوع. هذا الهروب و
إن كان محمودا في غالب مفرزاته، لم يترك مجالا للحراك حتّى يشتدّ عوده و يتنظّم و
تبرز له قيادة واضحة. المثال المصريّ نموذجيّ في هذا المجال حيث لم يترك الثوّار
السّاحات بعد الإطاحة بمبارك. بل شهدت مصر تواصلا للثّورة تكلّل برئيس منتخب لا
يتمتّع فقط بشرعيّة الإنتخابات بل كذلك كحامل للواء الثّورة المصريّة و قائد لها. لهذا
نرى الرّئيس المصريّ قادرا على التحرّك بثوريّة و على تصفية قوى الردّة (العسكر،
إعلام مبارك،الخلايا الإجراميّة العنيفة...) مباشرة و من دون مواراة. كما كانت
فكرة "ديوان المظالم"[1]
شبه مثاليّة لتلافي إستغلال الردّة للمطلبيّة لتأخير و تعطيل ركب الثّورة كما
نعاني في تونس.
لقائل أن يستنكر: "يالك من عدميّ، تنسف الطّبقة السّياسيّة في
صلبها ثمّ تنبري تحدّثنا أنّ ذلك عمل المرتدّين فقط." و لي إذا أن أدافع بأنّ
التّسارع الكبير للأحداث لا يسمح لنا بالتّوقّف هنيهة للتبصّر في القواعد الكبرى
للّعبة السّياسيّة ببلادنا. و أنا لا أنفي بأيّة حال أحقيّة المسار بل على النّقيض
فإنّني أدعم شرعيّته (بشقّيه موالات و معارضة) و أشعر حقيقة بأنّني "ممثّل" بالسّلطة العليا بالبلاد و هي المجلس
التّأسيسيّ سيّد نفسه بتفويض من الجماهير.
إنّي أريد من كلامي الحثّ و ربّما التّحضير للإنبعاث الحقيقيّ و
الثّورة الثّانية لهذا الشّعب. ثورة للأخلاق[2]
أوّلا و من ثمّ ثورة للإبداع و الفنّ و العمل الصّادق المجزي. كلّ هذا لم يتحقّق
بعد و أشكّ أن يتحقّق كليّا في ضلّ جيل حاكم و جيل شاب ترعرعا في أحضان الدّكتاتوريّة.
لكن ليس لذلك أن يثنينا عن الجهاد من أجل أن ننعتق من القوالب الدّيماغوجيّة التّي
حكمت آباءنا و غرست فينا.
"وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ
مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا
عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"
الأنبياء:51-54
No comments:
Post a Comment