منذ بدايته سنة 48
لم يفتأ الصّراع مع إسرائيل يكون محوريّا و مشكّلا (بكسر الكاف) للهويّة
الإسلاميّة عموما و لشخصيّة الدوّل أو بالأحرى المجموعة البشريّة النّاطقة
بلغة الضّاد خصوصا.و لا داعي هنا إلى تعديد وجوه القدسيّة الدّينيّة و
الفولكلور البطولي لتاريخ مقاومة الكيان الصّهيوني لبيان التّأثير الجبّار
لهذا الصّراع التحرريّ على العقل الإسلامو-عربيّ.
بل الأحرى بنا، في
إطار "تونسيّتنا"، بيان الخيارات الأساسيّة لقطرنا لتجاوز التّيه
المبدئيّ في تعامل الدّولة الرسمي مع الكيان الإسرائيل. و الإشكال الجوهريّ
في رأيي هو غياب، بل تغييب، الصّراحة في طقس جماعيّ غريب ننخرط فيه جلّنا
لمّا نتحدّث عن إسرائيل: معارضة و موالات، الكلّ ينشد بعنتريّة جاهليّة نشيد
دعم الكفاح الفلسطيني و مقاطعة إسرائيل و في المقابل تجريما للعمل المسلّح
أو ما يوصم بالجهاديّة و تناسيا متعمّدا لضآلة هذا الدّعم "المنافق"
إن وجد في سياق تعقيدات الصّراع و لاعبيه الكبار. فدور تونس لا يقارن مثلا
بدور الولايات المتحّدة و إيران و موسكو و بالطّبع الدّول التي تتقاسم حدودا
مع إسرائيل و تقيم معها علاقات "طبيعيّة" وهي أساسا الأردن و مصر و
إلى حدّ ما سوريا.إنّ الواقع المعاش يثبت حقيقة تمكّن إسرائيل لعوامل عدّة
من التفوّق النسبيّ على محيطها سياسيّا و إقتصاديّا و تكنلوجيّا و الأهم
من ذلك أحيانا عسكريّا.وإنهاء الصّراع مع إسرائيل،أي إسترجاع كامل الأرض
والحقوق دون نقصان، يستدعي التفوّق عليها في كلّ هذه جميعا و غيرها كما
يستدعي حسما عسكريّا في إطار حربيّ مفتوح.
إذا لو أردنا أن ندقّ طبول "الممانعة"
و "تجريم التّطبيع دستوريّا" في تونس يجب علينا النّظر موضوعيّا
إلى بعض المؤشّرات:فإسرائيل في المرتبة 17 من مؤشّر التنمية البشريّة للأمم
المتحدة في حين تأتي تونس في المرتبة 94 لعام 2011. و هذا المؤشّر يضمّ
عدّة مكوّنات كالتّعليم و الصحّة و النّاتج الوطنيّ الخام للفرد حيث يقدّر
الإسرائيلي ب 849 25 دولار و نضيره التّونسيّ ب281 7 دولار فقط**. إذا،
موضوعيّا لا مجال للمقارنة بين مستوى التّنمية أو الأداء الإقتصادي بين تونس
و إسرائيل بتاتا. و في حال أضفنا المستوى العسكري و بُعدَنا الجغرافي يتضّح
لنا سخافة كلّ الجعجعة و المزايدة الجوفاء ضدّ إسرائيل واستحالة مساهمتنا
حتّى في دعم نموذج المقاومة الحالي على المستوى الرّسمي (أي كدولة).
و لكنّ القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة لتونس لا
يمكن أن تختزل في هذه المؤشّرات الإقتصاديّة للإعتبارات الآنفة الذّكر حول
البعد المبدئيّ و الدّيني و الحضاري للصّراع. فالهويّة التّونسيّة لا تأبى
إلّا أن تؤديّ إلى توافقنا العريض حول هدف بل واجب المساهمة في تحرير
الأرض المحتلّة المقدّسة. لكن كيف بنا الوصول إلى ذلك الهدف المنشود و الحال
كما تقدّم في البون بيننا و إسرائيل؟ هنا تأتي الأهميّة القصوى لإلقاء
الشعارات التّافهة جانبا و بناء إستراتيجيّة حقيقيّة لإدارة الصّراع:لقد
أثبتت الدّبلوماسيّة التركيّة خصوصا و ربّما القطريّة إلى حدّ ما، أنّ
التّعامل مع إسرائيل على أسس النديّة و المصالح يؤدّي إلى تأثير أكبر و مجهود
مؤثّر في الحدّ من الإنتهاكات الحقوقيّة في حقّ الفلسطينيّين على الأقلّ. و
قد تمكّنت هذه الدّولتان عبر هذه العلاقات من توصيل الدّعم المباشر إلى
فلسطين و تدعيم صمود الجماهير. كما أنّ أسلوب العصى و الجزرة أثبت أنّ عصى
"قطع العلاقات" ناجعة في ثني المحتلّ أو تكبيده خسائر كبيرة في
حال عدم تجاوبه وكلّنا نذكر تأثير الهجوم على مرمرة.
إنّ الكيان الصّهيوني يشعر بالخطر دائما و
هو في حالة بحث دؤوب عن علاقات جديدة و ليس مستعدّا لخسارتها بسهولة. و هو مستعدّ لتقديم
مقابل سخيّ في مقابلها. و من قبيل المقابل، يمكن لتونس أن تفتح مقارّا
للفصائل المقاومة و الغزّاويّة النّشاط خصوصا، ممّا يفتح بوتقة كبيرة في جدار
الحصار و يفتح على المقاومين بابا للحوار مع العالم من تونس.
إنّي أرى أنّ مساهمة تونس في دفع قاطرة
التحرير في فلسطين ستكون معتبرة في حالة قيام علاقة مصالح، و إحدى أعلى
مصلحنا هي تحرير فلسطين كما قلنا، و التمكّن من خلالها في التّأثير المباشر
و الفعّال في الكيان الصّهيوني و ليس الهدف هي المقاطعة في حدّ ذاتها. إنّ
التوّاصل في تجاهل هذه الحقيقة و الإحتماء الجبان بشعارات الممانعة و الإمتناع عن
شرب الكوكة و النسكافي ما هو إلّا فصل آخر من فصول الكسل و الخمول الجماعيّ و
محاولة التهرّب من التحدّيات الحقيقيّة للسياسة الخارجيّة التونسيّة. كفانا جهادا
لإسرائيل من مقاعد مقهى المرجان و هلمّ إلى الواقع نتلمّسه لا ليوقلبنا بل لنأثّر
فيه بجديّة.
و بعد بيان و عرض
ما سلف أدعو إلى مراجعة جديّة و لإيجاد أوّل سياسة تونسيّة حقيقيّة لإدارة القضيّة
الفلسطينيّة منذ الإسقلال.
** يمكنكم الإطلاع على تقير الأمم المتحدّة للتنمية كاملا و بالعربيّة على هذا الرّابط:
No comments:
Post a Comment