لا يكاد يختلف إثنان أنّ الإساءات المتكرّرة من طرف نخبة تدّعي الفنّ
على المقدّسات الدّينيّة للمسلمين باتت تهدّد السّلم الأهليّ و نجاح الثّورة
برمّتها. فكلّنا نتذكّر الويلات و الفتنة التّي جلبتها علينا رسوم قصر العبدليّة
من قطع للطّرق و إستغلالها من طرف قوى الردّة لإشاعة الفتنة و الحرق و التّكسير
باسم الدّين. فالحساسيّة الشّعبيّة تجاه
مدنّسي الدّين وقابليّة الإنزلاق نحو الفوضى لمّا تحصل هذه الجرائم واضحة إذا. و الخطر يتزايد كلّما إقترب موعد الإنتخابات القادمة و هي
الفترة التّي سيكون نشاط الفلول التجمعيّة فيها مستعرا خصوصا مع وجود الواجهة السّياسيّة
المتمثّلة في "نداء تونس" و القادرة على تلقّف ثمار أيّ إنحراف أمنيّ.إذا، حماية للمسار و ضمانا لتواصل السّلم يتعيّن على الفاعلين السّياسيّين
إيجاد الحلول الكفيلة لعدم تكرار مثل هذه الأحداث. ولكنّ الحديث حول "قانون
لحماية المقدّسات" يعتريه كثير من اللّغو و المغالطات المتعمّدة من قبيل
مقابلته كضدّ للحرّيات الشّخصيّة و لذلك أرى أنّ الأمثل في حديثنا حول المسألة هو
قسمتها شطرين: في الشّطر الأوّل تبيان المسألة (حماية المقدّسات) من ناحية المبدأ،
أي التفكّر في مدى جدوى السّعي و منطقيّته بالأساس. وفي ذلك توخّ للوضوح و تجنّب للإلباس
لأنّ الإجابة حول سؤال الكيفيّة و الخوض في التّفاصيل التّطبيقيّة يأتي حتما بعد
الإقرار أو الرّفض لمبدئ "حماية المقدّسات". و في الشّطر الثّاني مناقشة
روح التوجّه الحاصل فعلا و تقديم بديل كفيل بضمان إحترام مشاعر و مقدّسات السّواد
الأعضم من التّونسيّين مع المحافظة على نفس السّقف من الحريّات و البرهنة على
إمكانيّة ذلك.
فلنبدأ بالخوض في المسألة من أسهل
جوانبها، أي دحض الغيّ و ما يسوط أهل الغيّ بالمسألة من بهتان. أكثر الحجج تداولا من
طرف الرّافضين لاعتماد قانون للمقدّسات هو "عدم حاجة المقدّسات لمن
يحميها" حسب قولهم. و قد قال ذلك زياد كريشان، رئيس تحرير جريدة المغرب، خلال
مؤتمر لمناقشة صياغة الدّستور كما تسمعون في الفيديو المرفق[1] . و هذا
الكلام المنمّق يستهدف السّامع بطريقة خبيثة. فالمتلقّي مدعوّ إلى إعتبار قانون
حماية المقدّسات إنتقاصا من قدرة الذّات الإلاهيّة عن الذّود على نفسها بنفسها. و
لكنّ المنطق السّليم و الإسلام نفسه يثبت أنّ المقدّسات، في نهاية الأمر، ليست لها
جيوش خاصّة من كائنات أخرى. بل القرآن نفسه محتوى بين دفتّي كتاب وينطق به الإنسان
و يفعّله و هوفي ذلك أم إنسانيّ خالص.
لا وجود "للمقدّس" بدون وجود
مجموعة بشريّة ما تذود عنه من التّدنيس و ترفعه إلى مرتبة التّقديس. و إلّا، ما الفرق
بين المقدّسات و سائر الأفكار و الأجسام إن لم يكن هنالك فعل التّقديس في حدّ
ذاته؟ كلّ مجتمع بشريّ ينحى لا محالة إلى إيجاد "مقدّساته" التّي يدافع
عنها و يعرّف بها وجوده. فحتّى أعتى الأنظمة المعادية للدّين أو المطالبة بفصله عن
الحياة العامّة، توجد لنفسها حدودا و نواميسا و طقوسا (التّماثيل، الأناشيد،
الأعياد..) تدافع عنها و "تقدّسها. و لا يمكن لمجتمعنا التّونسيّ إذا أن يشذ
عن هذه القاعدة و يتخلّى عن مقدّساته و يجعلها "مدنّسات". فذلك الزّيغ و
التّيه الفكريّ التّام و رديف لفكّ أواصر المجتمع من أساسها. من حيث المبدأ إذا،
يجب على المجتمع التّونسيّ ان يوجد الآليّات الكفيلة بحماية المقدّسات و الذّود
عنها و لا مناص من ذلك. و بما أنّ الوازع المجتمعيّ لوحده، في غياب الإطار
القانونيّ، لم يعد كافيا للقيام بهذه المهمّة فوجود الآليّة القانونيّة يصبح
إلزاميّا. الحديث إذا حول الكيفيّة و خصوصا الطّريقة الكفيلة ببعث إطار قانونيّ
مناسب للقيام بمهمّة المحافظة على المقدّسات مع عدم المساس بالأفق التّعبيريّ و الفنيّ.
أرى شخصيّا أنّ القانون
المقترح حاليّا[2] رغم
تجريمه للمساس بالمقدّسات لم يعالج المسألة بتشعّباتها و رهاناتها الثّقافيّة
الفنيّة.
إنّ القطاع الفنيّ و الإبداعيّ في تونس قطاع ديكتاتوريّ بإمتياز.
فالثّورة، و للأسف لم تتمكّن من خلق أنماط تعبيريّة و مضامين فنيّة إنعتاقيّة كما
يحصل في سوريا مثلا على الصّفحة المرفقة[3]
. و تماشيا مع فشل النّخب الفنيّة الإحتكاريّة، لم يجد قطاع كبير من
"الفنّانين" مناصا من البحث عن الشّهرة من خلال تدنيس المقدّسات. أسوق
هذه الإستنتاجات العامّة كون الأمر قطاعيّا لا فرديّا بدليل مدافعة نقابة
الفنّانين التّشكيليّن عن مدنّسي المقدّسات بقصر العبدليّة.
و لكنّ القطاع الثّقافيّ التّونسيّ لا يحتاج إلى لجم أفواه محتكري
القطاع و جرّهم إلى ترك المساس بالمقدّسات و بثّ سمومهم عوض ذلك من خلال الحثّ على
الإنحلال بدعوى "الفنّ". لا فلنتركهم على غيّهم، و الحماية النّوعيّة
منهم تكمن في خلق البديل في إطار نهضة فنيّة شاملة. فإنّ اللّجم و المنع هو في الحقيقة تجنّب
للمواجهة و تخييرللحلول السّهلة و فتح لباب للفتنة من خلال جرّ طبقة فنيّة فاسدة من
العلن إلى السّر و ذلك أخطر. فللتّونسيّين الحقّ في أن تكون السّاحة الفنيّة التّونسيّة
مخاطبة لهم و مراعية لمشاعرهم و مقدّساتهم. ولا سبيل لتحقيق ذلك بالمنع و إنّما بحثّ
الطيّب و المفيد:
إنّ كلّ الدّول المتقدّمة تمتلك آليّات لتحديد الحاجز العمريّ لكلّ
منتج فنيّ و خصوصا قطاع الإنتاج السّنمائي. على سلطة الإشراف أن تقوم بدورها من
خلال بعث هذا النّظام في تونس.بحيث تصنّف الأعمال حسب مدى ملاءمتها لعمر المتلقّي
و غيره من المعايير. و تكون الأعمال الماسّة بالمقدّسات تحمل تصنيفا عالي التّحذير.
وليكن المساس بالمقدّسات و العري و غيره ممّا يعتبره فنّانو الدّكتاتوريّة إبداعا،
ممنوعا على الأطفال و غير مشمول بالإعفاءات التّلمذيّة و الدّعم الرّسميّ الماليّ
وغيره من الحوافز. كما يجب بالموازاة إغداق الدّعم الرّسميّ على كلّ المنتوجات
الثّقافيّة الملائمة لكلّ عناصر الأسرة. إنّ هذا الإجراء من شأنه كذلك حثّ الفنّانين على
زيادة إنتاجهم من الموادّ الغير خادشة للمشاعر و الموجّه لكلّ المجتمع. فمثلا
سيكون على باب كلّ معرض إشارة إلى مدى ملاءمته و عندها يمكن للمتفرّج أن يتجنّب
بنفسه الأماكن التّي لا تتماشى مع ذوقه و دينه و لا يلام غيره إن ولجها بعد
تحذيره. إنّ الفنّ الملتزم و الهادف يجب أن يدعم و يفصل عن الفنّ الماجن حتّى يخلق
له سوق خالصة تكون سبيلا لترويج المعارض على نطاق شعبيّ أوسع و لرفع الحرمان
الثّقافيّ و الإحتكار من طرف طغمة تدّعي الفنّ بهتانا.
No comments:
Post a Comment