Photo creds: http://firaslebounce.tumblr.com/ |
كنت ألتمس مكانا أجدّف فيه بالحضارة. فقد ذقت ذرعا بحصار جدران ما فتئت تردّد لي حكايات عن دماء سالت بين شقوقها و لطّخت بياضها، فجافتها العدالة و لم يكن لها من مغتسل سوى سيلان دموع الثّكالى. و لمّا لم أعرف رفيقا خبيرا في السّخرية من الجدران و الحضارة متمرّسا في ذلك سوى البحر أين أنفقت زهاء العقد من عمري، قصدت شاطئا مهجورا لا يبلغ الطّرف له أفقا و لا يحدّ مداه إلّا عين ربّه. و بعد أن أخفيت درّاجتي بين أحراش ذات شوك مؤلم لأخشن الأقدام، إتّقاء ندماء لم يدن لهم الزّمان كما دان لأبي نواس فتكون درّاجتي نهبا لهم و صيدا ثمينا. ثمّ اتّبعت طريقا شقّه أولائك النّدماء بين الكثبان لا يتبيّن لشدّة تماهيه مع ما أحاط به من رمال متماثلة حتّى بلغت قرار الهضبة إلى حيث الماء.
إقتحمت اليمّ موليّا شطري وجه اللّه علّني أجده، و تعمّدت كما أراد لي مسيح معمدانيّ من قبل أو بالأحرى أني تطهّرت كما أراد لي محمّد الخاتم صلّى اللّه عليه و سلّم. و أثناء إنهماكي في طقسي الوحدانيّ كنت أزوّر في رأسي فكرة كون هذا البحر كبيرا مترامي الأطراف حمّالا بما كبر و صغر من خلق اللّه، و لعلّه لذلك قادر على أن يحمل عنّي بعض وزري و ذنوبي لمّا أغتسل به فيلتهمها حوت يونس فأرجع كما خلقت في حلّ منكم و منها.
و بينما أنا بين ذلك و بين أمواج لم تعر لتأملّي اهتماما و واصلت تعنّتها في استصغاري لاطمة إيّاي باستماتة، فكرّت أن أجدّد سعيي الأوّل و بحثي عن وجه اللّه بعد أن أخفته عنيّ جدرانكم و أنينها و مدنيّتكم و ضجيجها، إذا بي ألمح شيطاني يمشي الهوينى على الشاطئ المهجور متحاشيا أذيّة قبيلة من نورس إتّخذت من عراء المكان مأواها و استراحتها.
و لمّا لم يكن لي من مخرج و أنا قد خرجت إلى حيث تنتفي المداخل و المخارج جميعا، إستعذت بربّه علّه يصرفه عنّي كما هو فاعل كلّ رمضان. و لكّنه لم يعرني و لا خوفي و لا دعائي إهتماما و لم أره يبالي كالمريد هلاكي فتريّثت ثمّ اخشوشنت متصنّعا الشجاعة و طفقت أقول:
-سلام عليك يا شيطاني إن أنت أردت السّلام.
-و هل غيري مريد للسّلام يا إنسيّ؟ و لكنّه من السّذاجة بمكان أن يأمن و يركن أحد لعهودكم و سلامكم.
-مالي أراك في مكان رحب واسع ذي نور و جمال؟ سألته و في نفسي غاية تذكيره علّه يهرب من الضياء.
-يا بنيّ آدم، لم يترك لي من قال ربّهم أنّهم الظّالمون ظلمات و لا خلوات رطبة إلّا و ملؤوها.
-أما من إنسان تغويه أو شرّ توسوس له به؟
-إنّما أنا شيطانك كما علمت، موكل بك، و هل تركت لي من وسوسة أو تضليل إلّا واتبّعتها فزدت عليها؟
-مالك يا ابن النّار وحيد؟
-إنّما أنا مثلك، مثال حيّ ينسف أطروحات إبن خلدون في الإحتياج إلى الإجتماع.
علمت عندها أنّ شيطاني، زيادة على تهذيبه، مثقّف أو هو ربّما يفوقني علما و سرعة بديهة. و آنست فيه وجاهة و فضلا لرفقه بالنّورس فدعوته، بعد خروجي من الماء، أن يجالسني ريثما يجفّ لحمي من ماء تطهّري و تعميدي. و كان واسع الصّدر رحب النّفس فأجاب دعوتي. ناولته قارورة من ماء ملأتها لتويّ من عين بأحد جبال بنزرت يقال لها العين الباردة فشرب إبن النّار، على تعجّبي، ثمّ مسح ما سال منه بكمّ ردائه الأبيض و كلّ تعابير محيّاه تشي إلى قرب شروعه في حديث طويل إشتاق أن يبلّغه و لم تسنح له الظّروف قبلا. و لمّا انتهى من تحمحمه و تزحزحه بادرني بسؤال لم ينتظر مني عنه إجابة:
-هذا الماء عذب و لكنّه بارد، أعلمت سرّه يا آدميّ؟
-هممم....
-حسنا، لا تقاطعني فإنّي أقلّ صبرا من الخضر على سؤال الجهلة. إنّما يطفق هذا الماء الزّلال من صئدد جبل يسكنه صديق لي مارد جبّار. و كان لمّا يفرغ من منادمة أكابر قومه و مسامرة ملوك طائفته يهوى التّلاعب بأحب بني جلدتك ملتبسا إيّاه هنيهة ما طاب له ذلك. و محلّه من جسد الآدميّ قلبه، فكان أن ولج قلب إنسيّ آنس على محيّاه الإنكسار و القابليّة: فوجد بثنايا قلبه نارا بيضاء مستعرة غريب أمرها تلتهم الدفئ إلتهاما و لا تبقي في ذلك القلب إلّا برودا عظيما و سكونا رهيبا. و لمّا اقترب صديقي الجنيّ منها زاد عجبه و تعاظم فقد رآى، و لا تسلني عن طريقته في ذلك يا سليل موسى، أنّ حطبها و مبقيها على استعارها غدر نساء و بقايا ممزّقة لحبّ اعتمر في قلب الإنسيّ ذات مرّة. و بعد إستغراقه في نظره إلى تلك النّار الشّهباء و تعمّقه في الغوص بين ثناياها و التّقليب بين حطبها أصابه بعض منها تعلّق بتلابيب ثوبه. فلمّا برح المارد ذلك الإنسيّ، ألهاه هول ما رآه واعتكافه حزنا عن التباس البشر، عن قطعة النّار تلك فظلّت معه في قلب ذلك الجبل برهة حتّى اكتسب صخره و ماؤه من برودتها ما لم تزله الدّهور و لم تقدر على محوه الشّمس بسطوعها على هذه الرّبوع كلّ يوم بإذن ربّها.
-أراك مصيبا حكيما في جلّ ماقلته منذ التقينا، و لكن يا شيطاني كيف أصدّق أن ماردا جبّارا يحزن و يعتكف من أجل حزن آدميّ منكس أراد أصلا أذيّته والتباسه لهوا و طغيانا؟
-إنّما هاله ما رآه من تبدّل أحوال قلوب نسائكم وانقالبهنّ رأسا و قدرتهنّ على التّلاعب بقلوب رجال كانوا قبل ذلك عظاما أقوياء. و إنّ ذلك لفاطر الجبال أنصافا منسوفة إن هي برحت تسبيحها وانصرفت إلى تأمّل هذا الأمر دقيقة.
إستثقلت استرسال حديثنا حول أمر لا أظنّه حقّا محيطا بمن كان مثلي أو بشيطاني. و بعد برهة أمضيتها في صمت أقلّب و أزوّر كلاما في رأسي علّني أحمل شيطاني إلى مروج محادثة أخرى قلت له:
-إبن النّار، ما حال إخوتك بقيّة الشّياطين في سعيهم لإسقاط إخوتي بني الطّين فيما لا تحمد عقباه؟
-بحثنا و طوينا أرضكم طيّا جادّين السّعي و مخلصين فيه علّنا نعثر على صالح النيّة واسع العلم سديد العمل علّنا نغويه غيّا شديدا نلبس به عليه و على من اتّبعه أوّلا. فما وجدنا منهم إلّا نزرا قليلا إشتدّ تنافسنا في قسمتهم بيننا حتّى كادوا أن يزوروا المقابر و لم نتّفق على أمرهم بعد. و يضطرّ أغلبنا إلى تتبّع من هم في غنى عنّا و عن وسوستنا مغوون أنفسهم و قومهم صبحا و عشيّا تطوّعا لا إجبارا أو إيعازا من مارد أو شيطان.
-أفلا تفرح يا شيطان على تفرّغكم و رغد عيشكم و سهولة مهمّتكم؟
-أفيفرح من كان ذا شرف و مخلوقا من عنصر نبيل متّقد مثلنا بسهولة أمره؟ بل نحن نحبّ الكدّ و إليه نشتاق. و لكنّك إنسيّ و بنو قومك كسالى و كلامي عندهم نفاق لسوء أخلاقهم و ظنونهم بعد أن علموا طلاحهم مع أنفسهم.
حزّ في نفسي إسترسال شيطان رجيم في قدحه لقومي و ذمّه لهم. و لكنّي إبن بحر و رحيحلة لمست في أقوام أخى الجدّ و السّعي و لمست في أغلب قومي الكسل و لم أكن لأتذكّر ذلك لولا عطل أصاب درّاجتي بالصّبح و لم يكن صلّاحوا الدرّاجات قد فتحوا محلّاتهم بعد رغم بلوغ السّاعة العّاشرة صباحا. و لكنّي لم أطق تركه على ذلك فرددت عليه بجفاف:
-أيا شيطاني، ألا تخاف لقيا ربّك؟
-لم أر من الكائنات أخوف منكم من لقياه لأسباب علمتها و نظم حولها الحكماء منكم كتبا تشرح أمر رعبكم من المنى و لم تبلغ آخره بعد.
عندها لم أتمالك تجاوزه حدّه و ما كان منّي إلّا زجله صائحا:
-لعنة اللّه على شيطان رجيم يشنّع على بني آدم محبوبي اللّه.
فهمّ بي شيطاني مريدا عندها البطش بي و ما من شاهد على ذلك سوى ربّه و قدابتعدت الملائكة إشمئزازا من لقياه بادئ الأمر. و لم يكنّ لي من مغيث سوى وليّ كلّ مستجي فناجيته أن أعنّي ربّي و لن أتحادث مع عدوّك زميم الكفّار بعد ذلك. فقهقه شيطاني و تدارك أمره و تفكّه لقولتي تلك و أردف ساخرا مشمئزّا:
-صه خسئ لسانك. أمثلك يلوك إسم أدوناي. أما بلغك أنّ الدّعوة تقبل من المظلوم لا من الظالم؟
ثمّ أردف و قد بدى عليه حنوّ و عطف كنظرات أبي ذات يوم حين سألته مثّاقلا بزحام الحافلة رقم1000: "لماذا نستخدم الحافلة و هي تنتج ثاني أكسيد الكربون؟...". ثمّ بدى عليه التجهّز للرّحيل إلى حيث يكون بجانبي و لكنّه لا يرى:
-لست أراني كافرا يا رفيق عمري. و على كلّ حال لست بأقربنا إلى الكفر. فأنا على خلاف أخيك صاحب النّار الشّهباء، لم أقنط قطّ من رحمت من وسعت رحمته كلّ شيء.
-...
محمد فراس العرفاوي